روابط سريعة
© 2020 amwaj.media - جميع الحقوق محفوظة.
لقد أذاق الدعم الأميركي الثابت للحرب الإسرائيلية على غزة المنطقة مرّ العلقم. فالغضب لم يعد يعمّ العالم العربي فحسب بل امتدّ أيضًا إلى جميع أنحاء الجنوب العالمي، بسبب ما يُنظر إليه على أنه معايير مزدوجة غربية تجاه الهجوم الإسرائيلي المستمر. واليوم، هناك مطلب موحد يتمثل في وقف إطلاق النار وسط انتقادات حادة لما عدّه كثيرون عدوانًا إسرائيليًا بلا رادع.
ومع مضاعفة الولايات المتحدة دعمها لإسرائيل منذ بدء الصراع في غزة في أكتوبر/تشرين الأول 2023، اختارت دول مثل الصين وروسيا أن تسبح عكس هذا التيار. ووفّر الإحباط من الوضع الراهن لوسطاء السلطة غير الغربيين حوافز جديدة لصياغة نظام إقليمي يمنح واشنطن أهمية أقل. على أقل تقدير، من المرجح أن يؤدي هذا السخط إلى تسريع الدفع نحو الاستقلال الاستراتيجي عن الغرب بهدف إنشاء نظام إقليمي جديد حيث يتم التركيز بشكل أقل على الولايات المتحدة.
التوجّه نحو الشرق
تَمثّل أحد الاتجاهات الرئيسة للديناميات الإقليمية في السنوات الأخيرة في التوجه نحو الشرق. وفي تأكيد على على هذا التحول، توصلت إيران والمملكة العربية السعودية في مارس/آذار 2023 لاستئناف العلاقات الدبلوماسية في اتفاق تاريخي توسطت فيه الصين. وشكّل دور بكين في تحقيق هذا الاختراق رسالة واضحة إلى واشنطن مفادها أنها ليست صاحبة الثقل الدبلوماسي الوحيد في المنطقة.
ولدى كل من إيران والمملكة العربية السعودية أسبابهما الفردية الخاصة لإعطاء الأولوية لعلاقات أفضل مع جيرانهما. بالنسبة لطهران، فإن التقرب من الرياض يمثل فرصة فريدة للتحرر من عزلتها الاقتصادية بعد تحمل سنوات من العقوبات الأميركية من خلال تنويع الشراكات الاقتصادية والسياسية.
عندما انسحبت إدارة دونالد ترامب (2017-2021) من الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015 في عام 2018 وأعادت فرض جميع العقوبات، تفاقم الوضع الاقتصادي المتردي أصلًا في إيران. كما أدت حملة "الضغط الأقصى" الأميركية إلى تمكين المحافظين الإيرانيين على حساب القوى المؤيدة للإصلاح في طهران، ما أدى إلى تآكل أي ثقة ضرورية للتوصل إلى اتفاق جديد بشروط جديدة.
وما زاد الأمور تعقيدًا أن قتل إدارة ترامب لقائد فيلق القدس آنذاك قاسم سليماني في بغداد عام 2020، إلى جانب قرار الرئيس الأميركي جو بايدن بعدم العودة إلى الاتفاق النووي، أدى إلى تصعيد التوترات بين الخصمين وأجج المشاعر المعادية لأميركا في طهران.
وفي إيران، أكد انتخاب الرئيس المحافظ إبراهيم رئيسي في عام 2021 أيضًا استراتيجية "التوجه نحو الشرق" التي تنتهجها البلاد. وأعاد رئيسي تشكيل سياسة طهران الخارجية من خلال تبني موقف متشدد تجاه الغرب مع إعطاء الأولوية للعلاقات مع الدول الشرقية. وتعود جذور هذه السياسة إلى الاعتقاد بأن دول مثل الصين وروسيا تعدّ أكثر موثوقية.
بالنسبة للمملكة العربية السعودية، يعدّ التحول نحو الشرق جزءًا لا يتجزأ من رؤيتها الطموحة لعام 2030 وهي خطة إصلاح واسعة النطاق تهدف إلى تنويع اقتصادها. وتعدّ الصين والهند وروسيا شركاء رئيسيين في تحقيق هذه الرؤية، نظرًا لعلاقاتها التجارية الموسعة مع الرياض. وتلعب موسكو أيضًا دورًا مهمًا فيما يتعلق باستقرار أسعار النفط العالمية. وما يرضي المملكة أن هذه الدول مستعدة للانخراط في مشاريع تكنولوجية مشتركة من دون فرض شروط سياسية، على عكس نظيراتها الغربية. على سبيل المثال، فإن دعم بكين في هذا الصدد سيساعد الرياض في تنويع اقتصادها بعيدًا عن الهيدروكربون.
بشكل عام، تدرك الرياض أن نجاح رؤية 2030، وخاصة الجانب السياحي منها، يعتمد جزئيًا على وجود منطقة أكثر أمانًا. فالهجمات على المنشآت النفطية السعودية في عام 2019، والتي أُلقي باللوم فيها على طهران وأعلنت حركة أنصار الله اليمنية المعروفة باسم الحوثيين المسؤولية عنها، شكّلت نقطة تحول.
لقد صُدمت المملكة من عدم التحرك الأميركي، وأدركت أنها بمفردها أكثر مما كان يعتقد في السابق. ومنذ ذلك الحين، أعادت المملكة العربية السعودية معايرة علاقاتها مع المنافسين الإقليميين، معطيةً الأولوية لعلاقات أكثر ودية مع إيران لعزل نفسها عن أي صراع بين طهران وواشنطن. في المقابل، واصلت الولايات المتحدة مواقفها العدوانية تجاه طهران، بما في ذلك الجهود الرامية إلى إنشاء تحالف أمني بين الدول العربية لمواجهة النفوذ الإيراني.
ومع ذلك، لا تزال المملكة العربية السعودية حريصة على الحفاظ على علاقات أمنية قوية مع الولايات المتحدة. لكن هذه الاستراتيجية الدقيقة تعكس التزام المملكة بسياسة خارجية أكثر توازنًا وغير ثنائية، ولا تتماشى فقط مع أهداف الولايات المتحدة، مع إعطاء الأولوية للمصالح السعودية.
خسارة الحلفاء
لقد كشف اندلاع الحرب في غزة عن عدم إمكانية الاعتماد على الولايات المتحدة في نظر مجموعة متنوعة من الجهات الفاعلة في المنطقة. أولًا، أدى انحياز إدارة بايدن تجاه إسرائيل حتى عندما يشكل تصعيد الصراع تهديدًا حقيقيًا إلى الإضرار بشكل كبير بمصداقية الولايات المتحدة كوسيط.
في الماضي، بدت الحجة القائلة بأن علاقة واشنطن الوثيقة مع تل أبيب ضرورية لكسب النفوذ من أجل التوصل إلى حل سياسي معقولة. هذا المنطق قد عفا عليه الزمن اليوم، حيث تنظر الدول غير الغربية الآن إلى حد كبير إلى الولايات المتحدة باعتبارها غير راغبة، بل وغير قادرة على كبح جماح الأعمال العسكرية الإسرائيلية. ونتيجة لذلك، تضاءلت مكانة واشنطن كوسيط محايد وذي مصداقية أكثر من أي وقت مضى.
ثانيًا، تخسر الولايات المتحدة قدرًا كبيرًا مما تبقى من نفوذها السياسي في المنطقة. وعلى الرغم من أنها كانت تدعو إلى اتفاقيات التطبيع بين الدول العربية وإسرائيل، إلا أنه كان هناك عدم تطابق في الجهود المبذولة للضغط على تل أبيب بشكل متساوٍ للنظر بجدية في حل الدولتين بما يتماشى مع مبادرة السلام العربية لعام 2002. وهذا أمر مؤسف بشكل خاص لأن الخطة المدعومة من السعودية تتماشى مع ما أعلنته واشنطن علنًا باعتبارها رؤيتها. ومع ذلك، فإن الولايات المتحدة لم تستغل قط دعمها الاقتصادي أو العسكري أو السياسي لإسرائيل من أجل متابعة المبادرة العربية.
ومن المفارقات أن هدف تل أبيب من كسر عزلتها الدبلوماسية في العالم العربي كان إرساء معيار جديد يبعد القادة العرب عن القضية الفلسطينية. ويبدو أن الولايات المتحدة تدعم هذا النهج ضمنيًا. ومع ذلك، فإن حرب غزة جعلت القضية الفلسطينية غير قابلة للتفاوض بالنسبة للرياض التي تدرس خيار التطبيع مع إسرائيل وهي العملية التي كانت اكتسبت زخمًا قبل أكتوبر/تشرين الأول 2023 مباشرة. وقد ذكرت المملكة أنها لن تقبل صفقة مع تل أبيب من دون الشروع في عملية قابلة للاستمرار نحو الاعتراف بالدولة الفلسطينية ومن غير المرجح أن تؤدي الضغوط الغربية إلى ترجيح كفة هذا الموقف.
ثالثًا، بدأت الولايات المتحدة تفقد مكانتها بين دول المنطقة باعتبارها شريكًا أمنيًا. بالنسبة للكثيرين، فإن الدعم الغربي الكامل لإسرائيل غير مفهوم، ويعرض سلامتهم للخطر. ويرجع ذلك في المقام الأول إلى التهديد الحقيقي المتمثل في ديناميات حرب غزة الإقليمية التي تتصاعد خارج نطاق السيطرة. وقد حث القادة العرب الولايات المتحدة على وضع حد لتصرفات إسرائيل وخاصة مع قيام الجماعات المسلحة في العراق ولبنان وسوريا واليمن بحشد قواتها، ومع تورط إسرائيل في اغتيالات مستهدِفة جعلتها على شفا الحرب مع إيران. ومع ذلك، يبدو أن واشنطن مستمرة في الامتناع عن استخدام نفوذها بطريقة مجدية لاحتواء تصرفات تل أبيب.
وبشكل عام، أصبح التحول نحو آسيا بديلًا جذابًا للاعبين الإقليميين الذين يسعون إلى مواجهة الهيمنة الأميركية. إن الدول غير الغربية أقل انفتاحًا على الالتزام بقواعد واشنطن للعبة، وهذا الميل سيزيد من توطيد العلاقات الإقليمية خاصة وأن الجهات الفاعلة الرئيسة تجد أوجه تشابه أكثر من الاختلافات.
ورغم أن تصور المعايير المزدوجة التي تنتهجها الولايات المتحدة ليس بالأمر الجديد، فإن استعداد الدول غير الغربية لتحدي ذلك وسط نظام عالمي متغير تزايد. في السابق، كان اللاعبون الإقليميون يتسامحون مع الوضع الراهن حيث كان يُنظر إلى الولايات المتحدة باعتبارها القوة العظمى الوحيدة. ومع ذلك، مع صعود القوى العالمية الجديدة في الشرق، لا ترى هذه الجهات الفاعلة أي سبب للبقاء صامتة بشأن المعاناة في غزة في حين تقبل بشكل سلبي الحجج الأخلاقية للولايات المتحدة فيما يتعلق بالحرب الروسية على أوكرانيا. وإذا استمر الاتجاه الحالي، فسوف يتضاءل النفوذ الغربي في المنطقة التي سيطر عليها لفترة طويلة.