تجري مفاوضات تشكيل الحكومة العراقية المقبلة بين ثلاث مدن في البلاد. ففي بغداد، هناك الإطار التنسيقي الشيعي الذي يعترض على نتائج الانتخابات البرلمانية التي أُجريت في 10 أكتوبر/تشرين الأول ويخشى ألا يكون له دور في الحكومة المقبلة. وجاء أداء العناصر الرئيسية للإطار التنسيقي ضعيفًا في الانتخابات الأخيرة مقارنة بالتصويت البرلماني السابق للعام 2018.
وفي النجف، هناك زعيم التيار الصدري مقتدى الصدر الفائز في الانتخابات والأقوى حاليًا في معادلة تشكيل الحكومة بعد أن فازت كتلته بـ 73 من أصل 329 مقعدًا في البرلمان العراقي.
وفي أربيل، هناك الحزب الديمقراطي الكردستاني بزعامة مسعود بارزاني. ويبحث الزعيم الكردي عن الفرصة الأفضل للتحالف، ويرى حاليًا أن مصالحه تتلاقى ومصالح الصدر.
المشهد بعدسة مكبّرة
يحاول الإطار التنسيقي، المؤلّف من أحزاب وجماعات شيعية عارضت نتائج انتخابات 10 أكتوبر/تشرين الأول، إعادة فرض قوته على الساحة السياسية التي تراجعت بعد أن صادقت المحكمة الاتحادية العليا مؤخرًا على نتائج الانتخابات. ووضعت هذه المصادقة حدًا لاعتراضات الإطار التنسيقي على نتيجة التصويت.
وتجدر الإشارة إلى أن الإطار التنسيقي ومعظم حلفائه لا يريدون إبعاد إيران عن عملية تشكيل الحكومة. فهم لا يزالون يحتفظون بنفوذ سياسي مهم، ويقولون إنهم يسيطرون على حوالى 100 مقعد في البرلمان. بالإضافة إلى هذه المقاعد، تشمل الأصول المهمة الأخرى للإطار التنسيقي الجماعات المسلحة التابعة لمعظم أعضائه.
واتُهم الإطار التنسيقي في مناسبات عدة باستخدام العنف لإيصال رسائل سياسية إلى معارضيه. كان هذا هو الحال بشكل خاص بعد 16 يناير/كانون الثاني عندما تمّ استهداف مصرفَين كرديين في بغداد بالمتفجرات. وأحد المصرفَين هو ملك إدريس نيجيرفان بارزاني، ويُقال إن البنك الآخر مملوك لشخص مقرّب من عائلة بارزاني. وخلفيّة الأمر هي أنّه يُنظر إلى الحزب الديمقراطي الكردستاني بقيادة بارزاني على أنه مؤيد للتعاون مع الصدريين، مما قد يدفع بالإطار التنسيقي إلى خارج السلطة.
في غضون ذلك، بدأ الإطار التنسيقي في تقديم زعيم تحالف الفتح هادي العامري كواجهة رئيسية له بشكل ملحوظ، بعد أن ذكر سابقًا أنّ القيادة ستكون بزعامة رئيس الوزراء السابق نوري المالكي. ويعود هذا التغيير إلى رفض الصدر التحالف مع الإطار التنسيقي في ظل وجود المالكي.
وفي 15 يناير/كانون الثاني، استقبل الصدر العامري في مقرّ إقامته بمدينة الحنانة في محافظة النجف حيث بحثا المستجدات المتعلقة بتشكيل الحكومة المقبلة. وأشار الاجتماع إلى أن الصدر لا يريد إخراج بعض أطراف الإطار لكن رجل الدين والسياسي الشيعي يريد إذاقتهم المرّ وإفهامهم أنه أقوى منهم.
الخيارات المقبلة المتاحة
علم موقع أمواج.ميديا من مصادر مقربة من زعيم تحالف الفتح أن الصدر وجّه رسالة مفادها أنه لا يرى مشكلة في التحالف مع بعض أعضاء الإطار التنسيقي بشرط ألا يكون ائتلاف دولة القانون من بينهم.
ونقل العامري رسالة الصدر إلى الأعضاء الآخرين في الإطار التنسيقي في اجتماع عقد في وقت متأخر من يوم 16 يناير/كانون الثاني في بغداد ما أغضب بعض الأطراف الحاضرة.
وحضر اللقاء الأمين العام لحركة عصائب أهل الحق قيس الخزعلي الذي عاد لتوه من زيارة الى ايران. ولم يحضر رئيس هيئة الحشد الشعبي فالح الفياض بسبب إصابته بفيروس كورونا. وفي النهاية، لم يسفر الاجتماع عن نتيجة عملية.
وقال أحد الحاضرين في اجتماع السادس عشر من يناير/كانون الثاني الذي تحدّث لأمواج.ميديا شريطة عدم الكشف عن هويته:"كان اجتماعًا متوترًا شابه الكثير من الغضب بسبب رسالة الصدر، ما أسفر عن مغادرة الجميع من دون تسجيل أيّة نتائج".
وأوقعت رسالة زعيم التيار الصدري أعضاء الإطار التنسيقي في حيرة من أمرهم. فإمّا يتمسكون بالمالكي القوي وكتلته التي يبلغ عدد مقاعدها 37 مقعدًا أو يذهبون مع الصدر الأقوى وكتلته التي يبلغ عدد مقاعدها 73 مقعدًا.
ضغائن قديمة، شراكات جديدة؟
العداء بين الصدر والمالكي ليس جديدًا. فخلال فترة توليه رئاسة الوزراء من العام 2006 حتى العام 2014، شن زعيم ائتلاف دولة القانون حملة عسكرية كبيرة ضد جيش المهدي التابع للصدر. وطردت العملية التي حملت إسم صولة الفرسان في العام 2008 الصدريين المسلحين من البصرة، بدعم من القوات الأميركية. وتأكد العداء المستمر بين الرجلين في اجتماع الصدر مع الإطار التنسيقي في بغداد في أوائل ديسمبر/ كانون الأول الماضي، عندما تجاهل زعيم التيار الصدري إلقاء التحية على المالكي.
بعد زيارته الأخيرة إلى حنانة، أبلغ العامري حلفاءه في الإطار التنسيقي أنه سيسافر إلى أربيل للقاء زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني. وبالفعل، استقبله رئيس إقليم كردستان نيجيرفان بارزاني في 17 يناير/كانون الثاني. وقبل زيارته، قال زميل العامري في الإطار التنسيقي له:"ليس من المعقول أن تذهب إلى بارزاني وأنتم متهممون بقصف البيشمركة [الفصائل المسلحة] وأنت [أصدرت] تصريحات عدائية ضدّ أربيل."
ووصفت مصادر مطلعة في الإطار التنسيقي، تحدثت شريطة عدم الكشف عن هويتها، زيارة العامري إلى أربيل بأنها "فاشلة". وفي شرح مفصل لما حدث، قال أحد المصادر لأمواج.ميديا إن الجانب الكردي سأل زعيم تحالف الفتح، "أنت تقصف أربيل والبيشمركة والآن تريدنا أن نساعدك ونتحالف معك؟" وتجدر الإشارة إلى أن الجماعات المسلحة الشيعية متهمة بالوقوف وراء الهجمات المتكررة على مطار أربيل الدولي وقوات البيشمركة الكردية.
ومع إستشعار المالكي بإمكانية قيام بعض الأطراف في الإطار التنسيقي بالشراكة مع الصدر للحصول على مناصب في الحكومة المقبلة، وخوفًا من يُترك وحيدًا، يقال إن رئيس الوزراء السابق قد أوصل رسالة إلى الإطار قال فيها إنه قد ينسحب منه في أي وقت.
وصول شخصيتين مؤثرتين
دفعت الفوضى التي تشهدها عملية تشكيل الحكومة والخلاف بين الأحزاب الشيعية قائد فيلق القدس الإيراني، إسماعيل قاآني، لزيارة بغداد والنجف في يومي 16 و17 يناير/كانون الثاني. وبعد ساعات من وصوله إلى النجف، انضم محمد كوثراني من حزب الله اللبناني إلى قاآني في المدينة المقدسة. وتجدر الإشارة إلى أن كوثراني أدار منذ فترة طويلة ملف العراق في الحزب اللبناني.
وتؤكد زيارة قاآني أن الأحزاب الشيعية العراقية تعاني من عدم وجود بوصلة مشتركة ومن ضابط إيقاع يوحّد رؤاها ويجمع بينها. وتعتبر الجمهورية الإسلامية التوترات بين الشيعة في العراق تهديدًا لإيران ونفوذها.
وقد أفادت وكالة أنباء مهر الإيرانية شبه الرسمية في 17 يناير/كانون الثاني أن قاآني عقد اجتماعًا مع قيادات الإطار التنسيقي الشيعي في العاصمة العراقية بغداد بهدف توحيد مواقف البيت الشيعي ومناقشة تشكيل ائتلاف يضم جميع الأحزاب السياسية الشيعية وكذلك ملفّ تشكيل الحكومة الجديدة".
ولم تصدر أي تصريحات رسمية بشأن زيارة قاآني وكوثراني للعراق. لكن موقع أمواج.ميديا حصل على ما أسمته مصادر مطلعة "نصيحة إيرانية" مفادها:"حاولوا أن تعيدوا ترتيب أوراقكم، وأن تكونوا في المعارضة، وأن تلعبوا دورًا خدميًا يقربكم من الشارع".
ولم يلقَ رأي إيران الواضح ترحيبًا من قبل بعض أعضاء الإطار التنسيقي. ويشير هذا الأمر إلى أن هذه الأحزاب السياسية قد تنخرط مع الصدر للمشاركة في الحكومة المقبلة. وإذا تحقق مثل هذا السيناريو، فهذا يعني أن الصدر قد نجح في أمرين: تقسيم الإطار التنسيقي الذي صار موازيًا لكتلته في البرلمان وإبعاد المالكي عن المشهد الحكومي. على هذه الخلفية، أشارت مصادر في الإطار التنسيقي إلى أمواج.ميديا إلى أن العامري والخزعلي قد يتحالفان بالفعل مع الصدر.
هناك اعتبار آخر وهو حقيقة أن هناك نقاشًا مستمرًا داخل الإطار التنسيقي مفاده أن السنة والأكراد يدعمون إحداث شرخ في "البيت الشيعي" ويحاولون الاصطفاف مع الصدر لإبعاد الأحزاب الشيعية الأخرى وهو ما قاله العامري لمضيفيه في أربيل.
وقال مصدر عراقي مطلع في حديثه لأمواج.ميديا شريطة عدم الكشف عن هويته، إن "العامري قال لبارزاني إن استبعاد أي حزب من تشكيل الحكومة سيكون له تداعيات كبيرة على العملية السياسية. و[سأل]: هل تقبل الاصطفاف مع كيان كردي واحد على حساب الآخر"؟
وبالنظر إلى المستقبل، لا يملك حلفاء إيران في العراق سوى القليل من الخيارات السياسية الجيدة. إن التزام الصدر باستبعاد المالكي سيؤدي إما إلى تقسيم الإطار التنسيقي أو تحويله عمليًا إلى معارضة برلمانية. والسيناريو الإشكالي الآخر للإطار التنسيقي هو أن تتشكل الحكومة المقبلة في الغالب من مُعيّنين مختارين بعناية من قبل رئيس التيار الصدري.
في هذا السياق، اتُهم أعضاء في الإطار التنسيقي باستهداف مقارّ حزب تقدم السني بزعامة رئيس مجلس النواب محمد الحلبوسي، وكذلك مقار الحزب الديمقراطي الكردستاني في بغداد. بمعنى آخر، من غير المرجح أن يبقى الإطار التنسيقي مكتوف الأيدي. وإذا كان هناك من شيء يقوم به، فإن رسائله الضمنية لجميع الأطراف تشير إلى شيء واحد: من المرجح أن يتم استخدام "الملف الأمني" كبطاقة إذا تم استبعاد الإطار التنسيقي سياسيًا.